Sunday, February 10, 2008

عام المفاصلة

عـــام المــفاصلــة
فهمي هويدي
نحتاج إلي بعض الشجاعة والصراحة لكي نعترف بأن العام المنقضي شهد انفراطا ملحوظا في عقد الجماعة المصرية‏,‏ يسوغ لي أن أطلق عليه عام المفاصلة‏.‏‏(1)‏ أعني بالمفاصلة الشقاق والتباعد‏,‏ وهو تخريج اصطلاحي وليس لغويا برز مع ظهور فكرة المفاصلة الشعورية‏,‏ التي بمقتضاها يكون المرء قريبا في الواقع وبعيدا في الشعور والوجدان‏,‏ ومن ثم حاضرا وغائبا في نفس الوقت‏,‏ وهي درجة دون الانفصال الذي يعني الانقطاع‏,‏ وفي المجتمعات الأوروبية يفرقون في شأن العلاقات الاجتماعية بين الانفصال وبين الطلاق الذي يقصد به فصم العلاقة ليس واقعيا فقط‏,‏ وانما من الناحية القانونية أيضا‏,‏ من ثم فما أتحدث عنه هو شروخ وتصدعات في البنيان يتعين رصدها وعلاجها‏.‏لست في مقام الحديث عن العلاقة بين السلطة والمجتمع‏,‏ ليس لأنها تخلو من الشروخ والتصدعات‏,‏ ولكن لأن الشروخ القائمة أخذت حقها في كثير من المعالجات الإعلامية‏,‏ خصوصا التي وصفت العام المنقضي بأنه عام الغضب الذي ارتفع فيه صوت الشارع عاليا في مواجهة السلطة‏,‏ من خلال تجليات عدة‏,‏ إنما الذي يعنيني في هذا المقام هو التصدعات الحاصلة في محيط الجماعة المصرية ذاتها‏,‏ التي اعتبرها أعمق وأشد خطرا‏,‏ في هذا الصدد فإنني أزعم أن التصدعات تسللت في العام المنقضي إلي أربع دوائر علي الأقل هي‏:‏‏*‏ أولا‏:‏ العلاقة بين الفقراء والأغنياء‏,‏ ذلك أن الفجوة بين الطرفين اتسعت وتعمقت علي نحو مقلق‏,‏ صحيح أن تلك الفجوة كانت موجودة في عام‏2006,‏ الذي حين رسم تقرير التنمية البشرية بعض ملامحه فإنه أخبرنا بأن‏32‏ مليون مواطن مصري يعيشون تحت حد الفقر‏,‏ وأن‏3%‏ فقط من السكان يهيمنون علي‏43%‏ من الدخل القومي‏,‏ وليست تحت أيدينا بيانات رقمية عن أحوال‏2007,‏ لكننا نعرف جيدا أن غول الغلاء انطلق بقوة خلاله‏,‏ وأن ارتفاع معدلات التضخم ضغط علي الناس بأكثر مما يحتملون بالمقابل فإن مظاهر البذخ الصارخ والثراء الاستفزازي الذي عبرت عنه إعلانات الصحف وأخبارها كانت من العلامات البارزة في سجل العام‏,‏ وهي التي تمثلت في صرعة الأبراج والمولات ومستوطنات الأثرياء الجدد التي أصبحت وحداتها تباع بملايين الجنيهات‏,‏ وهو ما استصحب انقلابا في الخرائط الاجتماعية‏,‏ الأمر الذي كان طبيعيا معه أن تكتشف الأجيال الجديدة أنه لا مستقبل لها في البلد‏,‏ وأن الهجرة إلي ما وراء الحدود هي الحل‏.‏ نعم تحدثت تقارير رسمية عن وصول معدل النمو إلي‏7%,‏ لكن تلك التقارير لا تتحدث عن اتجاهات ذلك النمو‏,‏ إذ صب أغلبه في صالح الأغنياء‏,‏ الذين تضخمت ثروات بعضهملأسباب غير طبيعية يطول شرحها‏,‏ في حين لم يكن للفقراء فيه نصيب يذكر‏.‏هذه الأجواء لم تعمق الفجوة بين الفقراء والأغنياء فحسب‏,‏ ولكنها أصابت علاقات الطرفين بالتوتر‏,‏ وكان ظهور شركات الحراسة الخاصة‏,‏ وتعزيز إجراءات الدخول إلي مستوطنات الأثرياء من علامات التحسب لنتائج ذلك التوتر‏,‏ كما أن الإلحاح علي قضية العدالة الاجتماعية في الخطابين السياسي والإعلامي في الأسابيع الأخيرة من بين محاولات امتصاص ذلك التوتر وتخفيفه‏.‏‏(2)‏ ‏*‏ ثانيا‏:‏ العلاقة بين المسلمين والأقباط‏,‏ وهي التي ظلت طوال الوقت قائمة فيما هو معلن علي الأقل علي الاحترام المتبادل والتوافق علي العيش المشترك‏,‏ لكن هذا الأساس اهتز في السنوات الأخيرة‏,‏ حتي ظهرت في عام‏2007‏ عدة قرائن أشارت إلي أن الصيغة الراهنة للعيش المشترك لم يعد مسلما بها‏,‏ ولكن مواصفات وشروطا جديدة طرأت عليها من جانب أعداد متزايدة ليس من المتطرفين فحسب‏,‏ ولكن من جانب بعض العقلاء والمعتدلين أيضا‏,‏ وذلك هو الجديد والمؤرق في الأمر‏.‏قال لي أحد المثقفين الوطنيين في مصر‏,‏ إنه اشترك في مناقشة حول الأوضاع الراهنة في البلد‏,‏ واستشهد في حديثه بالمقولة الشهيرة التي رددها مكرم عبيد‏,‏ أحد الزعماء التاريخيين وقال فيها إنه مسيحي دينا ومسلم وطنا‏,‏ ظنا منه أنه باستدعاء هذه الصيغة فإنه يذكر بمعادلة مريحة تحقق الوفاق المنشود بين عنصري الأمة‏,‏ لكن ما أدهشه أن العبارة قوبلت بامتعاض من جانب أحد الرموز القبطية المشهورة بالاعتدال‏,‏ الذي كان مشاركا في اللقاء‏,‏ وهي لحظة لم ينسها كما قال لي لأنها نبهته الي أن ثمة متغيرا سلبيا طرأ علي علاقات الجماعة المصرية في الآونة الأخيرة‏,‏ ولم تكن تلك حالة خاصة‏,‏ لأن ثمة قرائن عدة كنت شاهدا علي بعضها‏,‏ أعطت ذلك الانطباع‏,‏ الأمر الذي أثار انتباه الدكتور رفيق حبيب المثقف الإنجيلي البارز‏,‏ فكتب مقالا نشره موقع المصريون علي الإنترنت في‏10‏ يناير الحالي‏,‏ ذكر فيه أن ثمة رؤية قبطية تريد تأسيس الجماعة المصرية بوصفها جماعة متميزة عن محيطها ولا ترتبط به‏,‏ بحيث يصبح الانتماء المصري نافيا لأي انتماء عربي أو إسلامي‏,‏ وتساءل هل يريد هؤلاء تغيير الأسس التي قامت عليها الجماعة المصرية تاريخيا؟ وألا يؤدي ذلك إلي نقض العهد الضمني المقام بين المسلمين وغيرهم‏,‏ القائم علي احترام احتفاظ كل طرف بعقيدته بما لا يخل بالتوجهات العامة للأغلبية؟هذا النزوع الي المفاصلة من أبرز ما ظهر علي السطح خلال العام المنقضي‏,‏ وهو ليس مفاجئا تماما‏,‏ لأن له مقدمات تلاحقت خلال السنوات السابقة‏,‏ وتجلت في الحوادث الطائفية التي وقعت في أماكن عدة بمصر‏,‏ ولكن القدر الثابت أن ثمة حساسية واحتقانا متزايدين علي الجانبين‏,‏ وأن حماقات وتصرفات بعض المتطرفين والدعاة المسلمين روجت لثقافة التعصب‏,‏ وأسهمت في تأجيج المشاعر التي أدت الي وقوع تلك الحوادث‏,‏لكننا ينبغي ألا نتجاهل أن ثمة خطابا مماثلا له حضوره علي الجانب الآخر جسدته في وقت سابق المسرحية الشهيرة التي عرضت في كنيسة محرم بك بالإسكندرية‏,‏ وكان أحدث تعبير عنه ذلك البيان الذي أصدره قمص دير القديسين بالأقصر عقب أحداث مدينة إسنا‏,‏ ولمزيد من الإثارة والتهييج فقد عممته بعض المواقع القبطية علي شبكة الإنترنت بنصه المسئ والجارح‏,‏ وللأسف فإن المتعصبين والمتطرفين ذهبوا الي أبعد في الشقاق‏,‏ حين لجأوا إلي الاستقواء بالخارج لتعزيز موقفهم في الداخل‏,‏ وتراوح ذلك الاستقواء بين الحملات الدعائية التي يطلقها من سموا بأقباط المهجر‏,‏ وبين الحضور الرمزي لـ‏19‏ من أعضاء الكونجرس الأمريكي احتفال الكنيسة الأرثوذكسية بعيد ميلاد السيد المسيح في السابع من شهر يناير الحالي‏.‏هذا الجهد لتكريس المفاصلة حقق بعض النجاح للأسف‏,‏ وهو ما تجلي في التناول الجديد لصيغة العيش المشترك‏,‏ الذي كان له أثره ليس فقط في إفساد الأجواء‏,‏ وإنما أثر بالسلب أيضا علي الجسور المقامة بين عقلاء الجانبين‏,‏ ومن ثم عطل تواصلا محمودا كان مرجوا ومستمرا في السابق‏.‏‏(3)‏ ‏*‏ ثالثا‏:‏ موقف العلمانيين من الدستور‏:‏ حين أصدر أكثر من مائتي مثقف مصري في شهر مارس الماضي بيانهم الذي طالبوا فيه بإلغاء المادة الثانية من الدستور‏,‏ التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة وأن مبادئ الشريعة هي المصدر الأساسي للقوانين‏,‏ فإن هذه المبادرة كانت تجاوزا لخط أحمر يحدث لأول مرة منذ صدور الدستور المصري في عام‏1923,‏ ولأن القاسم المشترك بين الموقعين علي البيان أنهم من العلمانيين باختلاف أطيافهم‏,‏ فإن إطلاق الدعوة كان بمثابة تصعيد في الاشتباك الحاصل بين التيارين العلماني والإسلامي في مصر‏,‏ إذ لم تقف الدعوة عند حد المطالبة بالفصل بين الدين والسياسة مثلا‏,‏ وإنما تطلعت لما هو أبعد حين نادت بإقصاء الإسلام تماما من الدستور أو إضعاف حضوره عند الحد الأدني‏.‏ولأن الدستور ليس أبا القوانين فقط‏,‏ وإنما هو أيضا من منظور علم الاجتماع السياسي وثيقة تحدد معالم الهوية الوطنية للمجتمع‏,‏ فإن تلك الدعوة التي مست نصا تأسيسيا فيه لم تكن إقصاء للمرجعية الإسلامية فحسب وإنما كانت في جوهرها إضعافا للهوية الوطنية وخرقا لإجماع الأمة المنعقد والمستقر منذ أكثر من ثمانين عاما‏,‏ وهو ما يصب في وعاء التفكيك والمفاصلة‏,‏ أراد أصحابها أم لم يريدوا‏.‏أدري أن الذين أطلقوا الدعوة يمثلون عددا محدودا من المثقفين العلمانيين الذين لا يثقون في مرجعية الإسلام ومبادئه‏,‏ وأعلن أن دعوتهم لم تجد استجابة تذكر‏,‏ ولكن الروح التي عبر عنها البيان والرسالة التي أراد توصيلها أحدثت شرخا إضافيا في علاقة العلمانيين والإسلاميين‏,‏ باعد بينهما بأكثر مما هي متباعدة أصلا‏.‏‏(4)‏ ‏*‏ رابعا‏:‏ موقف المجتمع من النموذج الإسلامي‏:‏ ذلك أنه من المفارقات أن المجتمع المصري المتدين بطبيعته شاع بينه في عام‏2007‏ قدر غير قليل من الخوف من الإسلام‏,‏ وهو خوف نجحت في تعميمه وسائل الإعلام التي كثفت هجومها علي الإخوان لكي تكسب معركة أمنية تكتيكية‏,‏ فترتبت عليها خسارة استراتيجية ينبغي ألا نقلل من شأنها‏,‏ إذ بدأ العام بترويع الناس من استعراض طلاب جامعة الأزهر الذي صورته وسائل الإعلام بأنه إعداد للانقضاض علي السلطة‏,‏ وانتهي العام بتأكيد التخويف والترويع من خلال الاستشهاد بالثغرات التي تخللت مشروع برنامج الإخوان المسلمين‏,‏ وبرغم أن كل أوراق الإخوان مكشوفة لدي أجهزة الأمن علي الأقل‏,‏ التي تعرف جيدا أن الخوف من هذه الزاوية لا أساس له ولا محل‏,‏إلا أن الأجهزة المعنية استثمرت تلك الأجواء لإغلاق أبواب العمل العام في وجه الإخوان‏,‏ ولست هنا في وارد تقويم هذا الموقف‏,‏ إلا أن أسوأ أثر جانبي للحملة تمثل في ذلك الخوف من الإسلام الذي انتاب أناسا عاديين من الطبقة المتوسطة والمتعلمة علي الأقل‏,‏ فضلا عن الطبقات الأعلي بطبيعة الحال‏,‏ وقد سمعت بأذني انطباعات من ذلك القبيل‏,‏ وأعرف أناسا يصلون ويصومون فكرو ا في مغادرة البلد‏,‏ أو لجأوا إلي شراء بيوت في الخارج تحسبا لاحتمال حدوث الانقضاض الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام‏.‏هذه الحالة العبثية جعلت قطاعات من المتدينين يتوجسون من دينهم وينفرون من النموذج الذي يقيمه‏,‏ بعد أن قدم في أكثر الصور تعاسة وأكثرها بؤسا‏,‏ ولم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر‏,‏ لأن الأسوأ أن هؤلاء لم يجدوا بديلا أمامهم سوي النموذج الغربي ليتمثلوه‏.‏هل هذه الصورة تناسب مجتمعا يعتبر نفسه في موقع القيادة للأمة العربية‏,‏ وهل هذه الدرجة من التفكك والتشرذم تمكن الجماعة الوطنية المصرية من أن تنهض بمسئولية التقدم في الداخل ومقاومة الهيمنة الخارجية؟ ـ اسمحوا لي أن نواصل بحث الأمر في الأسبوع المقبل بإذن الله‏.