خلا الفيلم من أي قيمة نقدية.. وتستر خلف شعارات تنويرية
سعيد أبو معلا
يختم المخرج المصري "خالد يوسف" فيلمه الجديد "حين ميسرة" باعتذار يوجهه مكتوبا وبصوته إلى جمهور المشاهدين بعد أن ينتهي عرض الفيلم يعلن فيه عن اعتذاره لعدم مقدرته على تقديم صورة الواقع المصري في العشوائيات الفقيرة كما هو؛ كونه أشد قسوة وأكثر ألما.. وهو محق بذلك. وكمشاهدين قريبين من ذلك الواقع نعترف بصدق اعتذاره هذا، ولأننا جزء من هؤلاء المشاهدين نجده مطالبا باعتذار مواز آخر إلى نفسه قبل الجمهور الذي يدعي احترامه على ذلك التشويه المتعمد، وغير المبرر لمخرج كخالد يوسف لجماعات العنف بدلا من نقدها وإبراز عيوبها ومثالبها، فمسألة التشويه هذه معتاد عليها في أغلب الأفلام المصرية التي تعاطت مع هذه القضية بالذات، وكأنه قدر المشاهد ألا يرى معالجة سينمائية تليق بحجم هذه القضية.لكن الأهم في "حين ميسرة" والذي ترافق مع التشويه المتعارف عليه، وقاد إلى ضعف عام في بنى الفيلم كله هو انعدام الجرأة في المعالجة، وعدم استنادها إلى حقائق تذكر باستثناء حقيقة واحدة مفادها أن الفقر الشديد وحالة الغبن التي يعيشها سكان عشش الصفيح تغذي جماعات العنف المسلحة وتجعلهم قنابل موقوتة.فالمخرج وهو المشارك في كتابة السيناريو برفقة السيناريست "ناصر عبد الرحمن" ركن إلى معالجة قدم فيها هذه الجماعات بناء على كليشهات تقليدية ونمطية جدا مع فارق، بطبيعة الحال، وهو أنه ضاعف من إمكانيات هذه الجماعات عددا وعدة، ومن حيث قدراتها الاستخباراتية وضحاياها من رجال شرطة ومواطنين أبرياء.شعار تنويري زائف***ا***جاء الفيلم متضمنا للإثارة وللكثير من عناصر الإبهار غير المبررة في جزء كبير منها، والأهم أنها جاءت على حساب المعالجة ذاتها التي تضمنت رؤية "غربية – عربية رسمية" حول أسباب تشكل جماعات العنف، وهي رؤية تُسقط الكثير من الاعتبارات، وتَسقط أمام القليل من الأسئلة ومحاولات الاختبار، كما يفندها واقع تشكل جماعات العنف ذاته في مصر وبعض الدول العربية.وبذا غاب اجتهاد المخرج كثيرا، فبان بوضوح أنه لم يبحث ولم يمحص ولم يغص في عمق هذه الإشكالية التي أدمت الشعب المصري، فخسرنا عمليا عملا فنيا كان يفترض أن يكون أداة لإثارة النقاش والحوار من المجتمع وإليه.فالخبرة الفنية للمخرج وكاتب السيناريو جاءت دون أن يغذيها خبرة في طبيعة فكر الجماعات الإسلامية المسلحة وغير المسلحة أيضا طالما ساويا فيما بينها بنفيهم رسم الفروقات والخلافات الكبيرة التي تحكم علاقاتهما. وبذا جاء عملا ضعيفا يخلو من أي قيمة نقدية حقيقية بالتستر خلف شعارات تنويرية هي في جوهرها زائفة، ما منع الجماعات المتطرفة ومعتنقي أفكارها بوجود مسببات ذلك من كشف خطأ أفكارهم وممارساتهم هذا أولا، وحرم المشاهدين ثانيا من التمتع بمعرفة أصيلة وعبر لغة سينمائية لا بأس بها لطبيعة هذه الجماعات وأسباب تشكلها وخطرها على المجتمع. طالما نؤمن أن اختلافنا مع خصم أو طرف بعينه لا يمنحنا الحق في تشويهه وتزيف الحقائق التي هي جزء أساسي منه ومنا أيضا.هذا عن الإطار العام للفيلم، فماذا عن قصته؟ثلاثة خطوط درامية***ا***في ثلاثة خطوط درامية يتطور بنى الفيلم، فمن حي شعبي فقير يعاني سكانه من فقر شديد وحياة صعبة، يعيش سكانه في "بيوت" وعشش صغيرة، وبأعداد كبيرة جدا في بيئة تسودها لغة القوة والفتوات لا لغة القانون والعلاقات الإنسانية العادية، وفي جو يفقد فيه كل مواطن لخصوصيته وآدميته، تتشكل أغلب الأحداث وتتقاطع ومنها تتشكل أحداث المحورين الدراميين الآخرين.تبدو الحياة في الحي الشعبي التي أدمنها سكانها واستقروا بها راكدة آسنة لا يحركها سوى أحلام مؤجلة التحقيق وربما لن تأت أبدا وفي انتظار لمغتربين في دولة كالعراق سيجلبون معهم المال والأمل.هذا الواقع الذي تبدع الكاميرا في التقاطه وتعبر عنه جمل الحوار التي تتناثر بسرعة من أفواه ساكني الحي الذين يتشاركون بالخيبات كما الأمل ذاته، تنطلق الأحداث منه التي تمتد لتغطي فترة تجاوزت الـ 15 عاما على الأقل، فيها تحدث تطورات وتغيرات في المحيط العربي، فيحتل العراق الكويت، ويخرج منها وتحدث عملية عاصفة الصحراء... إلخ وصولا إلى احتلال العراق، وهي أزمات وحروب لها ما يقابلها من تطورات داخل الحي ذاته فتقع صراعات ومعارك وتحدث انتصارات وهزائم فتتغير فيه موازين القوى أيضا.فالبطل "عادل" (عمرو سعد) العامل الميكانيكي الفقير والذي يعيل أسرته وأسرة أخته التي قتلها زوجها يصبح سيد الحي دون منازع بعد أن كان الفتي الفقير مكسور الجناح مهدور الكرامة.الصدفة وحدها تجعله يلتقي بـ"ناهد" (سمية الخشاب) عندما ينقذها من محاولة اغتصاب فيقيم معها علاقة تثمر حملا يرفضه ويطالبها بإجهاضه، وهو الأمر الذي ترفضه ليرفضها وطفلها الذي تتركه في إحدى حافلات النقل العمومي."عادل" يفعل الكثير ليتمكن من إعالة أسرته الكبيرة في البداية من بيع للمخدرات إلى التقاط الأكل من مكبات النفايات، وهو في ذلك يعيش ووالدته على أمل عودة أخيه "رضا" من العراق الذي يقع تحت الاحتلال الأمريكي ليعود خبر أن "رضا" هو عضو في تنظيم القاعدة في العراق وهناك احتمالية أن يكون قد دخل مصر عائدا إلى التنظيم السري الذي أسسه ورفاقه في الحي منذ 15 عاما بصمت وسرية تامين لتنفيذ عمليات "إرهابية".يقع "عادل" وأهل الحي ضحية المعلومات الأمريكية التي تصل أجهزة الأمن المصرية وبعد التعذيب الشديد الذي يتعرض له كل من يعرف "رضا" يجد الأمن أنه بالنسبة للحي حلما لا أكثر ما لبث أن تحول إلى لعنة تصيبهم جميعا، فيصبح عادل عميلا مزدوجا يلعب على الطرفين (أجهزة أمنية، والجماعة الإسلامية) فيتفق مع الشرطة على مساعدتهم في الوصول إلى جذور التنظيم المسلح داخل الحي، ومع أمير الجماعة (أحمد بدير) الذي يقنعه بالتعاون معه مقابل 100 ألف جنيه مصري وهروبه من الحي.الخط الدرامي الثاني والذي يتفرع عن الأول يرتبط بـ"ناهد"، فبعد أن تترك ابنها في إحدى الحافلات تسافر إلى الإسكندرية لتصادفها "غادة عبد الرازق" والتي تتحرش بها جنسيا فتهرب لتلتقطها من الشارع سيدة عجوز ما تلبث أن تموت لتُتهم من أبنائها بسرقتها فتعود إلى بيت "غادة"، لتعمل راقصة على مضض، خلال ذلك تتعرض لحادثة اغتصاب جماعي تعمل على إثرها راقصة في أحد الكباريهات.الخط الدرامي الثالث يسلط الضوء على معاناة أطفال الشوارع من خلال ابن عادل وناهد والذي تكون قد تلقفته أسرة لا تنجب تعيده بعدها لذات الشارع بعد أن تنجب.وعبر الطفل الذي يكبر في الشارع برفقة مجموعة كبيرة من أمثاله يسلط الفيلم الضوء على حياة أطفال الشوارع التي لا ينظمها قانون بل ملاحقة مستمرة ومستعرة من رجال الشرطة، فنرى عالم الشارع المؤلم وعوالمه وظروف واشتراطات الحياة فيه، والذي يعيشونها بكل قبح وألم وأمل، وهناك يكبر الطفل فيقيم علاقة مع صديقته فتاة الشارع التي احتضنته فينجبا طفلهما الأول الذي يخوضان كل الصعاب في سبيل الحفاظ عليه.خارج التغطية***ا***يحسب للفيلم بداية محاولته تقديم واقع العشوائيات التي تعاني من الفقر والتهميش والظلم والنسيان، فهي "خارج تغطية" الحكومات والوزارات إلا من الجهات الأمنية التي تعمل فيهم قمعا وإرهابا واضطهادا. كما أن الفيلم أبدع في تصوير أثر واقع العشوائيات هذه على الحياة النفسية والاجتماعية للسكان، من خلال إيقاع الفيلم ذاته، الذي جاء مليء بالانفعالات الحادة التي رافقها حركة سريعة وحادة للكاميرا، والسلوكيات العنيفة، والصراعات الداخلية والتي تمظهرت عنفا مختلفا بفعل سوء الواقع الاقتصادي والاجتماعي، كما يظهر في لغة الفيلم ذاته فالتخاطب لا يتم إلا بالصراخ، وتحصيل الحقوق أو ما يعتقد أنها حقوق لا يكون إلا بالقوة، وهذا جاء في التكنيكات الإخراجية التي استخدمت في الفيلم، ونوع اللقطات المستخدمة.كما قدم الفيلم نموذجا للعقلية الأمنية المعمول بها في التعامل مع سكان العشوائيات، فبدا واضحا أنهم منساقون أمام أي كلمة تأتيهم من المخابرات الأمريكية، كما أنهم لا يتورعون عن ممارسة أفظع أساليب التحقيق للحصول على المعلومات.بيئة الفقر فقط!!***ا***مبعث المحور الأهم في العمل كله هو البيئة التي تفرز جماعات العنف الإسلامية وتمدها بعناصرها، فالفيلم يقوم على فكرة أن الوضع الاقتصادي السيئ وحالة الفقر تعتبر تربة خصبة تنمو فيها جماعات العنف التي لا تتورع عن استغلال حاجة الناس وضحالة تفكيرهم والغبن الذي يعيشون فيه كي تغسل عقولهم وتجندهم في صفوفها، طالما قيادات هذه الجماعات من الفئات ميسورة الحال.غير أن اللافت في الفيلم هو أن المخرج يناقض نفسه في ذات الأمر، فـ"عادل" الفقير والذي تعرض لظلم شديد بفعل إجراءات الأمن تتجمع كل الخيوط ليكون عضوا في جماعة مسلحة لكن شخصيته داخل الفيلم لا تتطور منطقيا إلى ذلك، بل نراه ساخطا على جماعات العنف بحجة أنها اختطفت أخاه "رضا" بانضمامه لها، وعلى رجال الأمن الذين عذبوه واعتقلوه رغم براءته، ليقرر العمل مع أمير الجماعة ضد رجال الأمن مقابل الحصول على المال انتقاما من أحد الضباط.وإذا تجاوزنا ذلك كله فسيظهر للمتابع الأهم وهو أنه لم يظهر أي تمايز في طبيعة الاتجاهات الإسلامية الموجودة، فلم نرى سلفيين أو إخوانا... إلخ، وهي تيارات أكثر انتشارا وحضورا في بنيات المجتمع المصري.ويكتسب إظهار هذا التمايز أهمية في ظل وجودها الحقيقي والفعلي، وجهل بعض الطبقات التي لا تتحصن بمعرفة ووعي بها، الأمر الذي يضع كل التيارات الإسلامية في سلة واحدة، وهو ما يستشف من الفيلم ذاته وتحديدا في اللقطة العامة التي أخذت من فوق الحي لصلاة العيد فبدا أن الجميع بلباسهم الأبيض من اتجاه واحد.عصابة مسلحة***ا***النقطة الثالثة ترتبط بالجماعة الجهادية التي عرضها الفيلم والتي جاءت دون أي خلفية أيديولوجية أو مطلبية آنية، فظهرت بأنها انتهازية، متخفية ببيع المخدرات ومندمجة مع فتوات الحي، ترتكب الجرائم، وتسفك الدماء، وتفجر الحي بساكنيه طمعا بالهرب من المواجهة دون وجود أي سبب منطقي لهذا الفعل.حتى الأحداث السياسية التي جاءت في خلفية الفيلم لم يتم استثمارها في طرح موقف التيارات الجهادية، فبدت الجماعة كعصابة حقيقية لا هدف لها، ولا منطق لرفضها النظام أو الواقع الذي هي جزء منه.فعجز المخرج المخيف عن عرض أفكارها وتناول إشكالياتها وأخطائها، وهي التي تعتبر مثقلة بالأخطاء، هو أمر مرفوض ولا يمنحه أي مبرر أخلاقي للجوء للتشويه المتعمد.أما ما يرتبط بجوهر الفيلم فيمكن نقضه بسهولة، فالواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الناس ليس السبب الوحيد الذي يقود إلى العنف، بل هو مسبب من مجموعة مسببات عندما تجتمع وتتكامل تنتج ردات فعل يكون منها سلوك العنف الذي رأيناه في المجتمع، وهو ما يستحق أن تدق أجراس الخطر له.فلا يمكن النظر إلى أسباب تشكل هذه الجماعات في إغفال صريح للواقع السياسي الذي انبثقت منه، وحالة التطرف الموازية التي تعيشها المجتمعات العربية، وما يجري في العراق وفلسطين ولبنان مثلا... إلخ.رغب "خالد" في تقديم "جماعات إسلامية مسلحة"، لكنه كان أقرب إلى تقديم "عصابة مسلحة"، فقد قصد الأولى فكانت الثانية، ولو كنا نأمل أن يكون قد قصد الثانية عن سبق إصرار وترصد ونزع عنها بعض مظاهر اللباس وبعض الجمل الدينية التي رددها أعضاؤها، كون مفهوم العنف أوسع من مجرد ربطه بدين أو تيارات بعينها دون سواها.شذوذ "تجاري"***ا***اختلافنا المطلق مع الجماعات التي حاول الفيلم تناولها يسمح لنا أيضا أن نختلف مع أسلوب المخرج وطروحاته التي ضمنها لـ"حين ميسرة"، فمسألة الشذوذ في الفيلم لا تبدو من نسيجه الدرامي، كما أنها لم تحظ بأي معالجة، الأمر الذي يجعلنا نحكم على أن الهدف منها هو محض تجاري، فهي كانت بمثابة مصدر جدل ونقاش قبل العرض، أدت حتما إلى فتح شهية المشاهدين والمراهقين وشجعتهم على المشاهدة.كما أن الفيلم انحاز بشكل موارب للشاذة جنسيا من خلال جعلها خيارا أولا تلجأ إليه "ناهد" بعد أن هربت من بيت العجوز التي احتضنتها وبذلك منحها شرعية ما، رغم أن "ناهد" فرت من ذات الشقة بعد حادثة التحرش المثلي.أما حادثة اغتصاب "ناهد" على بشاعتها فلم تحظ بأي معالجة درامية من حيث أثرها النفسي وطبيعة الصدمة على الضحية في بنية الفيلم سوى بتطويل مستفز لمشهد الاغتصاب الجماعي.وهنا لن نغالي في شيء لو قلنا إن "ناهد" بمجملها تعتبر الخط الدرامي الأضعف، والذي جاءت بالتحولات التي شهدتها شخصيتها غير مقنعة مطلقا، وتحديدا تحولها بعد حادثة الاغتصاب إلى راقصة في "الكابريه"، والجلسات الحمراء الخاصة وهي الحياة التي تحاول أن تهرب منها بعد مطاردة من الشرطة.أطراف الفيلم الثلاثة تلتقي مصائرها في حالة هروب وجزع، وكأنه الحل الذي يقترحه المخرج، ربما هو حل مؤقت، لكنه حل يتجه صوب الإسكندرية هذه المرة، أي المدينة الساحلية بكل ما تحمل من جمال وبعد وهدوء، "ناهد" هربا من الشرطة ومن عملها كراقصة، و"عادل" من الشرطة والجماعات المسلحة معا، وطفلا الشارع ومولودهما الذين سيخوضون صراعا طويلا من أجل البقاء
سعيد أبو معلا
No comments:
Post a Comment